مناهضون
في الوقت الذي تحظى فيه صراعات المنطقة بتغطية سياسية وإعلامية واسعة، تبقى الأحواز جرحًا مفتوحًا في الجسد العربي، يختبئ خلف جدران الصمت الدولي، وتتجاهله العواصم الكبرى رغم ما يحمله من حقائق تاريخية دامغة ومعاناة إنسانية مستمرة.
ورغم مرور ما يقارب مئة عام على ضم الأحواز إلى دولة الاحتلال الإيراني، ما تزال الأحواز تدفع ثمن موقعها الجغرافي وثرواتها النفطية ومياه أنهارها، وما يزال شعبها يتمسك بعروبته في مواجهة محاولات الطمس والتذويب، إنها ليست قضية محلية أو إقليمية فحسب، بل قضية أمة كاملة، تمتد جذورها في تاريخ العرب وهويتهم وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ـ كيف بدأت القصة:
قبل عام 1925، كانت الأحواز إمارة عربية مستقلة يحكمها الشيخ خزعل بن جابر الكعبي، الذي نجح في إقامة علاقات دولية واضحة مع بريطانيا والدولة العثمانية وكانت له مكانة سياسية معترف بها.
لكن التحول الكبير وقع عندما قرر رضا شاه، مؤسس الدولة البهلوية، ضم الأحواز بالقوة، منهياً وجود الإمارة العربية.
ولم يكن الضم حدثًا سياسيًا عابرًا، بل بداية حقبة طويلة من سياسات التفريس الممنهج، تم خلالها:
تغيير أسماء المدن والقرى والمعالم العربية.
فرض اللغة الفارسية كلغة تعليم وإدارة.
منع استخدام العربية في المؤسسات الحكومية.
توزيع الأراضي الزراعية على مستوطنين قدموا من عمق إيران.
مصادرة ممتلكات القبائل العربية لصالح السلطة المركزية.
هذه الخطوات المبكرة رسمت الإطار العام لما ستشهده العقود القادمة من سياسات ضغط وتغيير ديموغرافي.
ـ الثروات التي صنعت المأساة:
يُعتبر الأحواز أغنى مناطق ما تسمى بإيران بالموارد الطبيعية بعد نهبها، وهو ما جعل سياسات طهران تجاهه تنحرف نحو الاستغلال المكثف بدل التنمية المحلية.
من أهم هذه الموارد:
- النفط: أكثر من 80% من إنتاج النفط الإيراني يأتي من الأحواز، وبالأخص حقول مسجد سليمان وعبادان والخفاجية.
- الغاز الطبيعي: الأحواز يحتوي على واحد من أكبر الاحتياطيات في المنطقة.
- الزراعة: الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة جعلت الأحواز سلة غذاء مهمة قبل مشاريع تحويل المياه.
- المياه: نهر كارون وروافده كانا مصدر الحياة الاقتصادية للأحواز حتى بدأت مشاريع التحويل إلى وسط إيران.
- ورغم هذه الثروات، بقيت المدن العربية ضمن أفقر المناطق في الدولة، في مفارقة تعكس حجم التمييز الاقتصادي.
ـ الطمس بدل الاندماج:
استمرت حكومات الاحتلال الإيراني المتعاقبة في تطبيق سياسات تهدف إلى تفريغ الأحواز من عمقه العربي، ومن أبرز هذه السياسات:
– التغيير الديموغرافي: قامت الحكومات بنقل آلاف العائلات الفارسية إلى الأحواز، ومنحتهم وظائف ومساكن، مقابل تضييق اقتصادي على السكان العرب لإجبارهم على الهجرة نحو المحافظات الأخرى.
– محاربة اللغة العربية: على الرغم من أن الدستور الإيراني يعترف بالتعدد اللغوي، إلا أن العربية مُنعت فعليًا في المدارس الحكومية، كما أن الطلاب العرب يُجبرون على الدراسة بلغة غير لغتهم الأم، ما أدى إلى فجوة تعليمية هائلة بين عرب الأحواز وبقية الإيرانيين.
– مصادرة الأرض: بذريعة التطوير أو الأمن القومي، جرى الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وأُقيمت عليها مشاريع صناعية أو سُلمت لشركات حكومية مرتبطة بالحرس الثوري.
أكثر ما أثر على حياة الأحوازيين خلال السنوات الأخيرة هو مشاريع نقل مياه نهر كارون إلى العمق الإيراني، هذه المشاريع:
- دمرت القطاع الزراعي الذي اعتمد عليه السكان لعقود.
- أدت إلى جفاف مساحات شاسعة كانت خضراء.
- تسببت في هجرة آلاف العائلات نحو المدن بحثًا عن العمل.
- رفعت معدلات التلوث بشكل خطير بعد أن تحولت بعض مجاري الأنهار إلى مصبات للصرف الصناعي.
- تحول نهر كارون من رمز للحياة إلى خط أزمة بيئية وإنسانية، وهو أحد أبرز انعكاسات السياسات المركزية القائمة على استنزاف موارد الأحواز بدلاً من تطويره.
ـ جذور المقاومة الأحوازية:
لم تمر هذه السياسات دون رد، فمنذ بدايات القرن الماضي، برزت حركات مقاومة شعبية وسياسية، تدرجت عبر مراحل مختلفة:
- – مرحلة الانتفاضات القبلية (1925 – 1979): شهدت هذه المرحلة عدة تحركات احتجاجية، قادتها القبائل العربية رفضًا لسياسات التفريس ومصادرة الأراضي.
- – انتفاضة 1979: مع سقوط حكم الشاه ووصول الثورة الإسلامية إلى السلطة، خرج العرب الأحوازيون في مظاهرات واسعة للمطالبة بحقوقهم القومية، لكن الرد كان شديدًا: قوات الحرس الثوري دخلت إلى مدن الإقليم، وتم تنفيذ إعدامات جماعية بحق عشرات الناشطين.
- تُعد هذه الانتفاضة إحدى أكثر المحطات دموية في تاريخ الأحواز.
– موجة الاحتجاجات الحديثة (2011 – 2022)
خلال العقد الأخير، شهدت الأحواز انتفاضات متكررة بسبب:
- الجفاف.
- البطالة.
- انقطاع المياه والكهرباء.
- الاعتقالات التعسفية.
ورغم القمع، يبقى الحضور الشعبي قويًا، خاصة بين الأجيال الجديدة التي تستعيد هويتها عبر وسائل التواصل والتعليم الأهلي والحملات الإعلامية.
ـ أين العالم العربي؟
- على الرغم من أن القضية الأحوازية قضية عربية بامتياز، إلا أن حضورها في الخطاب العربي الرسمي ظل ضعيفًا.
- بعض الدول طرحت الملف بشكل خجول في المناسبات الدولية، لكن ذلك لم يصل إلى مستوى الضغط السياسي المطلوب.
- أما الإعلام العربي، فقد تناول القضية بشكل متقطع، وغالبًا عند وقوع أحداث أمنية أو انتفاضات محلية.
- في المقابل، تبذل الجاليات الأحوازية في أوروبا وأمريكا جهودًا لافتة:
- تنظيم مؤتمرات وفعاليات ثقافية.
- إعداد تقارير حقوقية.
- الضغط على المنظمات الدولية.
- لكن هذه الجهود ما تزال بحاجة إلى دعم عربي مؤسسي يرفع القضية إلى وضعها الطبيعي كملف قومي يتجاوز الجغرافيا والسياسة.
الجدير بالذكر أن القضية ليست مجرد صراع حدودي أو مشكلة داخلية، فالأحواز قضية أمة للأسباب التالية:
- هوية عربية تتعرض للطمس.
- ثروات ضخمة يجري استنزافها دون عائد للسكان الأصليين.
- موقع جيوسياسي يجعل الأحواز بوابة للخليج العربي.
- تاريخ عربي موثق قبل ضم الأحواز.
- انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
- كل ذلك يجعلها جزءًا من الوعي القومي العربي، وليس مجرد ملف محلي.





