مناهضون
كتب: الحارث طه
السؤال الذي يتكرر عند الحديث عن الوضع السياسي في سوريا هو: ما البعد الاستراتيجي لسوريا بالنسبة للقوى الدولية؟ وما هي أهميته وأهداف تلك القوى؟
مع اندلاع الثورة السلمية في سوريا مطلع عام 2011، سارعت القوى الدولية لإيجاد موطئ قدم ثابت لها في الساحة السورية. وقد حملت كل من هذه القوى رؤية خاصة تجاه سوريا، نابعة من حساباتها الاستراتيجية في تلك المرحلة الحرجة.
كانت سوريا قبل الثورة، بعكس الدول المحيطة بها كدول الخليج والعراق والأردن، شبه خالية من التواجد العسكري المباشر للقوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية، التي أقامت قواعدها الأكبر في تلك الدول. هذا الغياب شجّع الدول الكبرى على السعي لترسيخ وجود حقيقي لها على الأراضي السورية.
تمثل هذا السعي في تحركات مكتب الاستخبارات البريطانية بين عامي 2012 و2015، بقيادة الضابط البريطاني جون فورس، المسؤول عن الملف السوري منذ سنوات طويلة. حمل فورس رؤية واضحة لإعادة صياغة النفوذ الغربي في المنطقة، عبر تحويل سوريا إلى مساحة نفوذ بريطاني جديدة. كان هدفه الأساسي هو تقليص الوجود الروسي في المنطقة، وتجريد موسكو من منفذها الوحيد إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو الركيزة الجيوستراتيجية لروسيا في موازين القوة العالمية.
كما تحركت الاستخبارات الأميركية بدورها عبر سلسلة من الزيارات إلى سوريا، بهدف تعزيز الحضور الأميركي وربطها بشبكة القواعد العسكرية في الخليج والعراق والأردن. كان الهدف واضحاً: ضمان أمن إسرائيل من جهة، وفرض هيمنة أميركية خالصة على سوريا والمنطقة ككل، بما يتضمن تقليص النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. ولتحقيق ذلك، بدأت الأجهزة الاستخباراتية الأميركية خطوات استراتيجية متسارعة، هدفها النهائي تقريب سوريا من مظلة حلف شمال الأطلسي.
في هذه الأثناء، تبلور المشروع الإيراني الطائفي في المنطقة، الذي بدأ مساره في لبنان والعراق تحت شعارات رنانة مثل “تحرير القدس” و”معاداة أميركا وإسرائيل”. لكن خلف هذه الشعارات، كان هناك هدف خفي ينسجم مع ترتيبات أميركية أوروبية، أبرزها مفاوضات الملف النووي الإيراني. وقد تعزز هذا التفاهم في عهد الرئيس باراك أوباما، حين أفرجت الولايات المتحدة عن نحو خمسين مليار دولار لصالح الحكومة الإيرانية، في إطار استمرار المفاوضات النووية.
ترافق هذا الاتفاق مع تفاهم غير معلن، يقضي بإطلاق يد إيران لنشر نفوذها الديني والعقائدي في المنطقة. شمل ذلك السيطرة على مؤسسات التعليم في العراق ولبنان وسوريا، ونشر الحسينيات الشيعية على نطاق واسع، مع تحييد أي مواجهة مع إسرائيل في فلسطين المحتلة.
في ذات الوقت، لم يكن لروسيا أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا التحول. إدراكاً منها لأهمية الجغرافيا السورية، سارعت موسكو إلى خطوات عسكرية حاسمة، لتعزيز موقعها الاستراتيجي في المنطقة، والحفاظ على نفوذها في مواجهة التحركات الغربية والإيرانية المتسارعة.
التقط الروس الإشارة من الوريث الشاب، بشار الأسد، وتحركوا سريعاً لحمايته من السقوط، مدركين أن انهيار نظامه يعني خسارة شريك استراتيجي ونفوذهم الحيوي في المنطقة. في عام 2015، أرسلت موسكو نخبة قواتها العسكرية، مدعومة بغطاء جوي روسي مكثف، وتحريك أسطولها البحري باتجاه السواحل السورية. لم تكن هذه مجرد مناورة تكتيكية؛ فقد كانت تحركاً شاملاً لموارد روسيا العسكرية نحو المتوسط، لحماية نفوذها الاستراتيجي ومنع انهيار النظام السوري.
عبر ذلك التدخل، حافظت روسيا على سيطرتها على المنفذ البحري الوحيد لها في البحر الأبيض المتوسط، والذي يشكل قوة جيوسياسية بحد ذاته. هذا التحرك لم يقتصر على حماية سوريا فقط، بل أوقف مشروعاً محتملاً لمد خط الغاز من الشرق الأوسط عبر سوريا إلى أوروبا، مما كان سيقلل اعتماد القارة الأوروبية على الغاز الروسي. ومع استحواذ روسيا على هذا المنفذ البحري، رسخت موسكو مكانتها كمصدر رئيسي للغاز إلى أوروبا، ما دفعها أيضاً إلى تعزيز سيطرتها على المنافذ البرية باتجاه أوروبا، والتي تمر عبر أوكرانيا.
هذه الخلفية شكلت أحد الأسباب الرئيسية للحرب الروسية الأوكرانية. بالنسبة لروسيا، كان تعزيز نفوذها في سوريا وإغلاق المنفذ البحري أمام المشاريع الغربية، بما في ذلك خط الغاز المنافس، امتداداً للصراع الاستراتيجي مع الأميركيين وحلف شمال الأطلسي، الذي يُعتبر أوكرانيا عضواً غير رسمي فيه. الحرب في أوكرانيا كانت، في جوهرها، جزءاً من معركة أوسع نطاقاً للحفاظ على النفوذ الروسي في مجالي الطاقة والجغرافيا السياسية.
اليوم، وبعد ثماني سنوات من التدخل الروسي في سوريا، تمكنت موسكو من ترسيخ سيطرتها على البلاد، مما أدى إلى تهجير نصف الشعب السوري إلى خارج الحدود. بالتوازي، فرضت الدول الضامنة اتفاقيات تهدف إلى نزع سلاح فصائل المقاومة الثورية السورية، وتجميعها في محافظة إدلب، التي أصبحت آخر معاقل الثورة. في إدلب، تتواصل محاولات المقاومة الثورية السورية لإعادة تنظيم صفوفها، مستندة إلى مبادئ الثورة التي قامت على الحرية والكرامة، في مواجهة الاحتلال الروسي والإيراني ونظام الأسد، الذي لا يزال يُعتبر رمزاً للاستبداد والدمار.
خلال تلك السنوات، تعلّم جميع الأطراف، سواء الإقليمية أو الدولية، وحتى الفصائل الثورية، كيفية التعاطي مع الملف السوري بحرفية متزايدة. البداية جاءت عبر عملية عسكرية محدودة أطلقتها الكتائب الثورية بالتنسيق مع ضباط الجيش السوري الحر، حيث تقدمت القوات الثورية مسافة خمسة كيلومترات من إدلب باتجاه حلب.
كانت هذه الخطوة البسيطة بمثابة الشرارة التي أعادت الروح إلى الثورة السورية العظيمة. لم تتوقف القوات عند تلك الكيلومترات القليلة، بل واصلت زحفها عبر أرياف حلب حتى وصلت إلى قلب المدينة، محققة حلم التحرير، الذي كان يُنظر إليه كرغبة في الحرية وأمل بالنصر بعد سنوات من القصف الوحشي الذي نفذته الطائرات الروسية وطائرات نظام الأسد على المخيمات والمدنيين.
هذه المعركة شهدت تحولاً نوعياً تمثل في توحيد صفوف الفصائل الثورية تحت راية مشتركة بقيادة ضباط الجيش السوري الحر، على اختلاف ألوانها وانتماءاتها. الدعم اللوجستي لهذه العمليات جاء من عدة أطراف دولية وإقليمية. فقد قدم الجانب التركي دعماً استخباراتياً مباشراً ساهم في تعزيز القدرات الميدانية للثوار، بينما كان للولايات المتحدة دور محوري عبر اجتماعات متكررة في قاعدة التنف الجوية.
في هذه الاجتماعات، تعهد قادة الجيش الحر بالتزامهم بمبادئ الثورة، بما في ذلك عدم اضطهاد أي عرق أو طائفة أو ممارسة أي أعمال انتقامية، مع ضمان استمرار مؤسسات الدولة السورية وحماية المدنيين. من جهتها، تعهدت القوات الأميركية بمنع أي تدخل خارجي يعطل تقدم الثورة، بما في ذلك منع الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، مثل الحشد الشعبي، من دخول الأراضي السورية.
كما قدمت الولايات المتحدة دعماً جوياً من خلال الطائرات الأميركية، وضمنت تحييد طائرات النظام، بينما استعانت الفصائل الثورية طيارين منشقين عن نظام الأسد كانوا قد انضموا سابقاً إلى الجيش الحر. هؤلاء الطيارون تمكنوا من السيطرة على مطارات استراتيجية، بما في ذلك مطار حلب والنيرب، ما عزز قدرة الفصائل على الحفاظ على الزخم الثوري.
وهنا يبرز السؤال المحوري الذي يتردد صداه في أذهان الكثيرين حول العالم: ما هو التوقيت الدقيق لهذه العملية العسكرية وسرعة تقدم القوات الثورية على حساب مناطق سيطرة نظام الأسد المدعوم من روسيا وإيران؟
الإجابة تكمن في مجموعة من العوامل الاستراتيجية التي خلقت فجوة استغلتها القوى الثورية بكفاءة.
أولاً: انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، حيث اضطرت لإعادة تموضع قواتها، وسحب جزء كبير من جنودها العاملين في سوريا. إضافة إلى ذلك، نقلت موسكو منظومة الدفاع الجوي إس-300 إلى أوكرانيا، مع استدعاء قادة عسكريين بارزين لمتابعة العمليات هناك، ما أضعف حضورها في سوريا بشكل واضح.
ثانياً: تقويض النفوذ العسكري الإيراني في سوريا نتيجة استهداف القيادات الإيرانية بهجمات جوية إسرائيلية متكررة، ووقف الإمدادات العسكرية عبر قصف طائرات الشحن في مطاري بيروت ودمشق. كما ساهمت هذه الضربات في تدمير الشحنات العسكرية الموجودة مسبقاً، ما شلّ فعالية إيران في دعم نظام الأسد.
ثالثاً: تفكيك بنية حزب الله اللبناني، الذي كان يشكل الدعامة الرئيسية لنظام الأسد. الحرب الأخيرة ضد الحزب قتلت قياداته ودفعت الجزء الأكبر من مقاتليه إلى العراق، ما ترك النظام مكشوفاً وعاجزاً عن الاحتفاظ بمناطق نفوذه.
رابعاً: تقرير استخباراتي إيطالي، أعده رئيس الاستخبارات الإيطالية خلال زيارة لسوريا قبل أربعة أشهر، كشف حقيقة الوضع الميداني لقوات الأسد. التقرير، الذي قُدِّم إلى دول أوروبية وإقليمية، أوصى بإنشاء مناطق آمنة لعودة اللاجئين السوريين، وسلط الضوء على هشاشة النظام، مما دفع بعض الدول إلى دعم الفصائل الثورية بشكل غير مباشر.
في ظل هذه الظروف، وجدت القوات الثورية السورية نفسها أمام فرصة ذهبية لإطلاق عمليتها العسكرية، مركزة على تحرير المدن الكبرى كحلب، مع طموح مشروع للوصول إلى دمشق. الأمل اليوم معقود على استمرارية هذه العمليات، ليس فقط لتحرير الأرض، بل لإعادة السوريين الذين عانوا طويلاً في مخيمات الشتات إلى وطنهم.
على الفصائل الثورية والجيش السوري الحر أن يواصلوا نضالهم دون تردد، وأن يدركوا أن طريقهم الوحيد هو الانتصار. عاصمة الثورة، دمشق، تنتظر عودتهم، وكل خطوة نحوها تقرب الشعب السوري من استعادة حريته وكرامته. وكما علمنا التاريخ، فإن حدود الظالم تُرسم بصبر المظلوم وإصراره.